قال: (وقال
فضيل :
المرجئة كلما سمعوا حديثاً فيه تخويف قالوا: هذا تهديد. وإن المؤمن يخاف تهديد الله وتحذيره وتخويفه ووعيده، ويرجو وعده، وإن المنافق لا يخاف تهديد الله ولا تحذيره ولا تخويفه ولا وعيده، ولا يرجو وعده). يقول: لا تغتروا بكلامهم، فإنهم كلما سمعوا آية أو حديثاً فيه تخويف قالوا: هذا تهديد. كما يقول بعضهم: هذه لمجرد التغليظ! فإذا سمعوا قوله تعالى: ((
إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا ))[النساء:10] قالوا: هذه الآية لمجرد التغليظ، أي: يمكن ألا يعذب فاعل ذلك، واللبس يأتي من هنا، وهو أن بعض الناس يقول: ما دامت تغليظاً فمعنى ذلك أنه لن يتحقق الوعيد، لكن
أهل السنة والجماعة يقولون: قد يتحقق الوعيد وقد لا يتحقق. وإذا قيل لأولئك: ما تقولون في حديث: (
لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن )؟ قالوا: هذا تغليظ وتهديد! هكذا يخيل الشيطان لهم، فيرتكبون الموبقات، وكذلك يقولون في قوله صلى الله عليه وسلم: (
لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده ) هذا للتهديد، ويقولون في قوله تعالى: ((
فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ))[النساء:65] هذا للتهديد والتغليظ.وهذا منهج خبيث لأهل البدع من المرجئة ومن شابههم في التقليل من قيمة النصوص الشرعية، فمهما وعظت أو ذكرت بآيات الله وخوفت الناس من الذنوب والمعاصي قالوا: هذا للتهديد والتخويف. يقول
الفضيل : نعم هذه الأحاديث وهذه الآيات تهديد وتخويف، ولكن المؤمن يخاف تهديد الله وتخويفه ووعيده، أليس المؤمن يخاف وهو يطيع الله تعالى؟! كما قال تعالى: ((
وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ ))[المؤمنون:60]؛ يخاف وهو يعمل الطاعات ألا يقبل منه، فكيف بمن يعمل الفجور والذنوب والمعاصي ولا يخاف تهديد الله ووعيده؟! فالمؤمن يخاف، وأما المنافق فلا يخاف تحذير الله ولا تخويفه ولا وعيده.وقد قيل: ما أمنه إلا منافق، ولا يخافه إلا مؤمن، فالمؤمن يخاف من وعيد الله ومن تحذير الله ومن تخويف الله.نعم إن نصوص التخويف والتحذير لا تتحقق في المعنى بذاته إلا إذا حصلت الشروط وانتفت الموانع، ولكن ما يدريك أن تكون الشروط متوافرة والموانع منتفية؟! فلا بد من أن تخاف الله وأن تخاف وعيد الله وألا تفعل ما حرم الله تبارك وتعالى، أما المنافق فلا يبالي بهذا ولا بذاك. وقد شبه النبي صلى الله عليه وسلم وضرب المثل لحال المؤمن وحال المنافق، فالمؤمن: يرى ذنوبه كالجبل يخاف أن يقع عليه، وأما المنافق فيرى ذنبه كالذباب وقع على أنفه فقال به هكذا، فيزني ويشرب الخمر ويأكل حقوق الناس ويقطع الرحم ويغتاب وينم ويفتري على الله ويفتري على الناس ويحسد خلق الله ويهمل فرائض الله ولا يبالي ثم يقول: ماذا صنعت؟! أنا مؤمن، وهذا تهديد وذاك وعيد، وهكذا يأتيه الشيطان بالشبهات بعد أن أوقعه في الخطايا والموبقات. أما المؤمن فيجتنب ما حرم الله، ولا يفعل هذه الأفاعيل، فهو يخاف الله، فإن وقع في شيء خاف وارتعد، ولهذا جاء
ماعز إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (
يا رسول الله! طهرني). فكان يقول له: لعلك كذا، لعلك كذا، وهو يقول: (طهرني)، يريد أن يتطهر، وكم ممن يزني -والعياذ بالله- ولا يبالي وكأنه لم يفعل شيئاً قط، ويشرب الخمر وكأنه ما أتى أم الخبائث ولا فعل شيئاً، ويأكل الربا وقد توعده الله تبارك وتعالى عليه بما نعلم. بل إن أكلة الربا ودعاة الاختلاط ومروجي الفساد اليوم يرون أنهم مسلمون معتدلون، وأن من يقول: إن الاختلاط حرام، والربا حرام يجب أن يلغى، فهو مسلم متطرف، فليست المشكلة في أنهم لا يخافون من الذنوب، بل أصبحوا يؤصلون لذلك، وأما الملتزم فهو الذي لا يقبل كلامه، وينبز بالألقاب المختلفة، وينظرون إليه على أنه متطرف من أهل الغلو، وأنه متشدد من
الخوارج .. إلى آخر ما يطلقون مما نسمع ونقرأ كل يوم ولا حول ولا قوة إلا بالله. قال: (وقال
فضيل : الأعمال تحبط الأعمال، والأعمال تحول دون الأعمال). أي أن أكل الربا قد يحبط الجهاد، وقد يحول ذنب دون أجر طاعة من الطاعات، نسأل الله العفو والعافية.إذاً: فالعمل من الإيمان، ولابد من أن تصلح الأعمال كلها، فليجتهد الإنسان في إصلاح عمله، وإلا فربما أذنب ذنباً فأحبط عملاً صالحاً آخر أو قلل أجره، وربما أوبق هذا الذنب دنياه وآخرته، وقد تقدم موضوع الإحباط وسبق الكلام فيه بالتفصيل، وبهذا نكون قد ختمنا كلام الإمام
الفضيل بن عياض رحمه الله تعالى. والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.